فصل: باب: إظهار دين الله تعالى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: المبارزة:

11423- المبارزة في الجملة جائزة، وعن الحسن البصري تحريم المبارزة.
والأولى ألا يبرز الغازي دون إذن صاحب الراية، وإن أراد المبارزة دون إذنه، ففي جواز ذلك وجهان:
أحدهما: يجوز، وقياسه ظاهر؛ فإنه فن من القتال، ولا سبيل إلى مراجعة صاحب الراية في تفاصيل القتال؛ فإن مراعاةَ هذا عسرٌ، سيّما إذا عظم الجند، واشتد القتال. والوجه الثاني- أنه لا يجوز؛ فإن له في تعيين المبارزين رأي واجتهاد فيهم. فلابد من مراجعته. وبالجملة من لا يعلم في نفسه بلاءً وشجاعة، فلا يجوز له أن يبارز بطلاً من الكفار، لأنه ربما يصاب، فتنكسر قلوب المسلمين، وتتجرأ به الكفار.
ثم يتعلق بالمبارزة فصول من الأمان، فإذا برز مسلم، وتنصَّل من الصف كافر، فلا أمان للكافر، ويجوز لجمع من المسلمين أن يغتالوه. وإن شرط أن ينفردا ولا يُعينَ المسلمون صاحبَهم، ولا الكفارُ صاحبَهم، فيجب الوفاء بموجب الأمان، ثم نَنظر إلى صيغته، فإن وقع العهد إلى أن يثخن أحد القِرنين صاحبَه، فإذا قتل الكافرُ المسلمَ، جاز قتلُ الكافر قبل الرجوع إلى الصف، وإن كان العهد ممدوداً إلى الرجوع إلى الصف، فلا نَتعرّض له.
وإن أثخن المسلمَ، ولم يبق فيه قتال، فأراد التذفيفَ عليه، ابتدرناه، ومنعناه، وإن كان العهد ممدوداً إلى تمام القتال، فإن القتال قد انتجز بالإثخان، فإن كان العهد ممدوداً إلى القتل، فالعهد-على هذا الوجه- باطل؛ فإنا إن رأينا في المبارزة وجهاً من المقاتلة، فلا تتم المبارزةُ إلا بأن يأمن كلُّ قِرنٍ في وقت المحاربة أن يُغتال من غير جهة قِرنه، فلئن اتجه هذا، فلا معنى لتسليط كافر على مسلم لا قتال فيه.
وإن كان العهد ممدوداًَ إلى القتال، فإذا ولى المسلم دُبره، فليس للكافر أن يتبعه، وقد ترك القتال، فإن تبعه، دفعناه وقتلناه، فإن ولّى الكافر دبره، فيجوز للمسلمين أن يقتلوه، لأن الأمان له ما داما يتقاتلان، وقد انتهى القتال بينهما.
وإن شرط البارز منهم ألا يتعرض له حتى يرجع إلى الصف، وجب الوفاء بالأمان. ولو أعان الكافرَ جماعةٌ من المشركين، فإن كان باستنجاد من برز منهم، قتلناه، ومن يعينه، فإن أعانوه من غير استنجاده، دفعنا من يعينه، ولم نقتل المبارز، وتركناه إلى قِرنه.
ولا فقه في هذه المسائل، والجامع لجميعها أن المرعي نصُّ الأمان وصيغتُه، فنفي به إذا وافق ما يجوز الأمان فيه.
وحظّ الفقه من جميع ما ذكرناه شيئان: ذكرنا أحدهما- وهو أن الأمان المسلّط على القتل بعد الإثخان باطل.
والثاني: أنا إذا جوّزنا للواحد من الصف أن يبرز دون إذن صاحب الراية، فلو أمّن المسلمُ البارزُ الكافرَ الذي خرج إليه على ألا يُتعرض له حتى يرجع إلى الصف، فيجب الوفاء بهذا الأمان، وإن لم يجر الأمان إلا منه.
وإذا قلنا: لا ينفرد بالبراز، فلسنا نعني به إذا كالح كافراً لا يجوز، وإنما نعني به أن أمانه لا ينفذ، فلا تنتظم المبارزة والحالة هذه؛ فإن المسلمين يقصدون ذلك الكافر، ويقتلونه.
فهذا معنى تردد الأصحاب في الانفراد بالمبارزة دون الرجوع إلى صاحب الراية، فإن قيل: ألستم تنفذون أمان الواحد للواحد؟ قلنا: هذا إذا لم يكن المؤمَّن مقاتلاً، ووقوف الكافر في الصف قتال.

.باب: فتح السواد:

قال الشافعي: "ولا أعرف ما أقول في فتح السواد إلا بظنٍّ مقرونٍ إلى علم... إلى آخره".
11424- وإنما قال الشافعي ما قال لاختلاف الروايات، في السواد، وكان أعرفَ خلق الله بهذا القسم، ولكن تحرّج حتى لا يُنسب إليه غريبُ الروايات كلها، واختار من جملتها: أن سواد العراق فُتح عَنوةً، وقد روي أنه فتح صلحاً، وروي أن بعضها فتح صلحاً، والبعض عَنوة، والأصح أن أرض العراق فتحت عَنوة بجملتها، وأريق على جوانبها دمُ آخر الأكاسرة يزدجرد وأعوانه، ولم يثبت صلحٌ في قطر من أقطار العراق، ثم استقسم الغانمون الأراضي، فقسمها عمر-رضي الله عنه- بينهم بعد أن قال: "أخشى أن يتعلقوا بأذناب البقر، ويتقاعدوا عن الجهاد " فخاف أن يتعطل أمر الجهاد، فاستطاب أنفسهم عنها، فمنهم من طاب نفساً بردّ نصيبه، ومنهم من أبى، فعوّضه، واستخلص الكلَّ للمسلمين.
وفي رواية جرير بن عبد الله البجلي، وهي أصح الروايات في سواد العراق، قال: "كانت بَجِيلةُ رُبعَ الناس، فأصابهم ربعُ السواد فاستغلوه ثلاث سنين أو أربعَ سنين، فقال عمر: لولا أني قاسم مسؤول، لتركتكم وما قسم لكم... الحديث". وروي أن أم كُرز قالت: "إن أبي شهد القادسية وثبت سهمه، وإني لا أرضى حتى يملأ كفي دنانيرَ وفمي لآلىء، ويُركبَني ناقة ذلولاً عليها قطيفةٌ حمراء، فأعطاها عمر ما سألت"، فثبت أن الفتح كان عَنوة.
ثم لما استخلص عمر أراضي العراق للمسلمين، ردّها على سكان العراق، ووقفها على المصالح، وضرب على الذين يستغلونها أموالاً رآها الشافعي أجرةَ الأراضي، والإجارةُ مؤبدة، وكانت تتكرر بتكرر السنين. ثم أسلموا عليها، فلم تسقط عنهم الأموال الموظفة عليهم، فإنهما كانت أجرة، ولم تكن جزية.
والمأخوذ منهم يُسلك به مسلك مال المصالح؛ لأنه مستفادٌ من موقوفٍ على عامة المسلمين، ومثل هذه الجهالة محتملة لمسيس الحاجة في المعاملات العامة المتعلقة بالمصالح الكلية. قال الشافعي: من انتهت إليه قطعة من تلك الأراضي من آبائه وأجداد، فليس للغير أن يقول: أنا أستغلها، وأعطي الخراج؛ فإنهم استحقوا منافعها بإجارة لازمة، عقدها أمير المؤمنين، والأجارة لا تنفسخ بموت المستأجر، ولو أراد واحد منهم بيع رقبة الأرض، لم يصح؛ فإن رقاب تلك الأراضي محبسة، ولو أراد واحد منهم أن يكري تلك الأرض مدة معلومة بأجرة معلومة، صح. وإن أراد أن يكريها إكراء مؤبداً بمالٍ يَتفق عليه التراضي، ففي ذلك تردد من الأصحاب، والأصح المنع؛ فإنا حملنا تجويز التأبيد في إجارة عمر رضي الله عنه على تعلق تلك المعاملة بالمصلحة العامة، وإذا أراد الواحد أن يكري، فتصرفه مردود إلى قياس التصرفات الجزئية. ومن يجوّز الإجارة المؤبدة، لا يجوّزها إلا في تلك الأراضي، ويحتج بأنهم استحقوا منافعها على جهةٍ، فلا يبعد أن يملكوا إخراج أنفسهم من البَيْن، وإحلال غيرهم محالّ أنفسهم، فيقع جواز هذا تبعاً لما أجراه لهم عمر.
وقال ابن سريج: باع عمر بن الخطاب تلك الأراضي من سكان العراق، وجعل الثمن مؤجلاً عليهم. وهذا غير صحيح، وهو يخالف النص، فإن نص الشافعي موجود في كتاب الرهون، على أن رهن السواد مفسوخ. أراد بالمفسوخ الفاسد، ولو كانت رقاب الأراضي مبيعة، لجاز بيعها، ولو جاز بيعها، لجاز رهنها. ثم ما ذكره غير صحيح، وذلك أن الأجرة إذا كانت تتجدد بانقضاء السنين، فهذا محمول على مقابلة كل سنة بأجرتها، والمنافع متجددة، ومثل هذا لا يتصوّر في البيع، فإن الموظف على أهل العراق لو كان ثمناً، فالثمن لسنا نرى له ضبطاً، ولا غاية، ولا مقابلة بما يتجدّد حالاً على حال.
وقال أبو حنيفة: السواد فتح صلحاً، وردّها عمر عليهم بخراجٍ يؤدونه كلَّ سنة، وزعم أن الخراج لا يسقط بإسلامهم. وهذا مطرد على مذهبه؛ فإنه يقول: إذا ضرب الإمام الخراج على أراضي الكفار، وكان يأخذه منهم جزيةً، فإذا أسلموا على أراضيهم، لم يسقط عنهم الخراج الموظف، وعندنا أن الخراج المضروب على الكفار سبيله سبيل الجزية، فإذا أسلموا على أراضيهم، سقط الخراج عنهم كما تسقط الجزى عن رؤوسهم.
ومما يتصل بهذا الباب أنه لو وقع مثل هذه الواقعة، وعلم الإمام أنه لو ترك الأراضي في أيدي الغانمين، لتعطل الجهاد، ثم زاد أصحابُ الأراضي بسطتَهم، فأَبَوْا، وعلم أنه لا خلاص إلا باقتهارهم، وأَخْذِ الأراضي منهم قسراً، فليس للإمام أن يفعل هذا، بل يقتهرهم على الخروج إلى الجهاد على حسب دعاء الحاجة إليهم.
وقد نقل المعتمدون: أن أمير المؤمنين استطاب قلوب المسلمين، وطلب المسلمون مرضاتَه، لما عرفوا نظره للدين وأهلِه، وروي: "أن بلالاً أبى عليه، فراجعه، فأغلظ بلال القولَ على عمر، فاحتمل عمر، ثم قال: اللهم خلصني من بلال وذويه، فما مرت سنة حتى لم يبق من آل بلال نافخ ضَرْمة".

.باب: الأسير يؤخذ عليه العهد ألا يهرب أو على الفداء:

11425- مضمون الباب الكلام على أحوال الأسرى إذا أطلقهم الآسرون، وأثبتوا عليهم عهوداً، ونحن نفصل الغرض فيما يجوز، وما لا يجوز.
فنقول: إذا خلَّوْا الأسير وشرطوا أن يتردّد فيما بينهم، ولا يخرج إلى دار الإسلام، فمهما تمكن، فلا يسعه المقام، إذا كان يخاف أن يُفْتَنَ عن دينه، وإن كان لا يخاف ذلك، وكان متمكناً من إقامة شعائر الشريعة غيرَ مدفوع عنها، فالأصح أنه لا يحرم عليه المقام.
ومن أصحابنا من حرم المقام؛ فإن المسلم بين أظهر الكفار مقتهَرٌ مهانٌ، فإن انكفوا عنه، فلا تعويل عليه؛ فإنهم قد يؤذونه، أو يقهرونه، أو يفتنونه عن دينه.
وحق المسلم أن يكون مستظهراً بأهل دينه، قال علي رضي الله عنه: "أنا بريء من كل مسلم بين المشركين"، حتى قال الأصحاب، لو كانوا حلّفوه، فلا يسعه المُقام، فإن أكرهوه على اليمين، فلا حِنث عليه، وإن لم يتحقق الإكراه على اليمين، ولكنه يرى أن يحلف لتسكين قلوبهم، ولنفي التهم، فعليه الخروج، إذا تمكن، ثم يلزمه الكفارة.
ولو حلف بالطلاق أو العتاق طائعاً-غير مكره- فلا شك أنه لو خرج، وقع الطلاق والعتاق، ولا ينتصب توقع وقوعهما عذراً في جواز الإقامة، بل يتعين الخروج على الرأي الظاهر الذي هو المذهب.
ثم إن أمّنوه، فليس له إذا استمكن من الخروج أن يغتالَهم في دمائهم وأموالهم، وذراريهم، ونسائهم؛ فإن الأمان إذا ثبت على شرط، اقتضى الأمانَ من الجانبين، ولو أطلقوه، وخلَّوْا سبيله، ولم يتعرّضوا للأمان، فله أن يغتالهم، لأنه لم يجر أمان يتضمن الأمن، فإذا جرى أمان، منعناه من اغتيالهم، وأوجبنا عليه أن يهرب إذا استمكن، ولو هرب، فتبعه أقوام ليردوه، فله أن يقاتلَهم، ويغتالَهم، ولا يتعرّض لغير الذين اتبعوه.
ولو خلَّوه على أن يخرج إلى دار الإسلام، ويزور أقاربه، ثم يرجع إليهم، فلا يحلّ له الرجوع إليهم، ولو همّ به، منعه الإمام.
وقال الزهري والأوزاعي: يلزمه الوفاء بالعود إليهم حتى لا يصير امتناعه سبباً لامتناعهم عن إطلاق الأسرى.
11426- ولو باعوا منه فرساً أو غيره من الأمتعة بأكثرَ من ثمن المثل أو بثمن المثل، فإن كان مكرهاً عليه، فالبيع باطل. غير أنه يلزمه أن يردّ إليهم ما أخذه بعد الخروج إلى دار الإسلام؛ لأن تلك العين حصلت في يده على حكم المعاوضة؛ فإذا لم يلزمه الثمن، ألزمناه ردَّ العين.
وقال الشافعي في القديم: هو بالخيار بين أن يردّ عين مالهم، وبين أن يبعث إليهم بثمنها. وهذا شَرْعٌ إلى وقف العقود. وقد قررناه في كتاب البيع، وإذا جوزنا وقف العقد، فالمكره على البيع يملك الإجازة لو أرادها.
ولو جرى البيع على اختيار، واشترى ما اشترى طائعاً بثمن يصح مثله في الإسلام، فيلزمه الوفاء بالعهد، وبعث الثمن. وفي تعليقنا عن الأمام أنهم إذا خلّوا الأسير على شرط أن يبعث إليهم مالاً، وفادَوْه به أنه لا يلزمه أن يفي بما وعد من المال، ولا يجوز أن يعود. قال: وحكى الشافعي عن بعض السلف: أنه يجب عليه أحد الأمرين: إما العود إلى الأسر، وإما بذلُ المال، وقيل هذا قول الشافعي في القديم. وهذا بعيد لا أصل له، ولم أره في غير تعليقنا، ولست أعدّه من المذهب.
فرع:
11427- قال العراقيون: لو كان في المغنم كلاب، فإن لم يكن منتفَعاً بها، خُلّيت، ويُقتل العقور منها فأما إذا كانت منتفعاً بها بحيث يجوز اقتناؤها للانتفاع بها. قالوا: لو أراد الإمام أن يسلّمها إلى واحدٍ من الغانمين لعلمه باحتياجه إليها، فعل ذلك، غيرَ محسوب عليه.
وهذا فيه احتمال؛ فإن الكلاب في الجملة منتفع بها، فلا يبعد أن نقول: يثبت لجميعهم حق اليد فيها. ومن مات وخلف كلاباً على الصفة التي ذكرناها، فلا يستبدّ بها بعض الورثة، وليس للقاضي تخصيص بعضهم؛ فليكن الأمر كذلك في كلاب المغنم.
فرع:
11428- إذا أراد الغزاة حمل رؤوس الكفار إلى بلاد الإسلام، فالمسألة ليست منصوصة للشافعي، والذي يقتضيه قياسه كراهيةُ ذلك، فإنه لم يعهد في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيها فائدة. وقد تعلق الأصحاب بما روي أن جماعة نقلوا رؤوس الكفار إلى المدينة في زمن أبي بكر، فقال: لا تنقلوا هذه الجيف إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال شيخي: هذا يمكن أن يحمل على تنزيه الحرمين عن نقل جيف الكفار، حتى إذا كان نقل الرؤوس ناجعاً في الكفار، فهو ضربٌ من التنكيل، لو رآه الإمام، لم يكن في تجويزه مع نفي الكراهية بأسٌ.
فرع:
11429- إذا حاصر صاحب الراية قلعة، فرضُوا بأن ينزلهم على حكم رجل عيّنوه، فيجوز للإمام أن ينزلهم على حكمه إذا كان أميناً عدلاً.
قال العراقيون: ينبغي أن يكون مجتهداً، وما أظنهم شرطوا أوصاف الاجتهاد المعتبرة في المفتي، فإن عَنَوْا بالاجتهاد التهدِّي إلى طلب الصلاح والنظر للمسملمين، فهذا لابد منه، وإن أرادوا استجماع شرائط الفتوى، فهو غلط غير معتدٍّ به، والأصل في ذلك ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تنزيل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ في قصة مشهورة.
ثم إذا حكم المحكّم بالقتل وسبي الذرّية، فللإمام أن يمن عليهم، ويفاديهم، ولا يتعين على الإمام قتلُهم، نعم لو حكم المحكَّم بالمن، فلا يقتلهم الإمام، وإذا حكم بالقتل، فله المن. وتعليل ذلك بيّن، ولو حكم عليهم بالجزية، فإن قبلوها، اتبعها الإمام، وفاء بالرضا بحكمه، ولو رأى أن يمن، فلا حرج عليه، وبالجملة: إن الإمام لا يزيد على حكم المحكَّم ومقتضاه، وإن أراد التجاوز والتساهل، ورأى ذلك وجه الصلاح، فلا يُعتَرضُ عليه.
ولو حكم المحكّم بالجزية، فهل يلزمهم الرضا بحكمه، والتزام الجزية؟ ذكر ابن سريج وجهين فيما حكاه العراقيون:
أحدهما: يلزمهم وفاءً بتحكيمه والنزول على رأيه.
والثاني: لا يلزمهم.
فإن ألزمناهم، فليس معناه أنا نوجب عليهم أن يلتزموا، ولكنا نقضي بأن الجزية تلزمهم، فإن أبَوْا، كانوا بمثابة أهل الذمّة إذا التزموا الجزية، ثم امتنعوا عن أدائها.
وسيأتي حكم هؤلاء في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى.
وإذا قلنا: لا تلزمهم الجزية، فلا يجوز التعرّض لهم، ولكنهم يُبَلَّغون المأمن، فإنهم نزلوا متمسكين بأمانٍ على الجملة، وهذا الوجه يفارق الوجه الآخر؛ من حيث أنا لا نغتالهم على الوجه الأخير وجهاً واحداً، وإذا ألزمناهم الجزية، وامتنعوا، فقد نغتالهم في وجه.
ولو حكم المحكَّم بالقتل، فأراد الإمام أن يسترق، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: له ذلك، لأن الاسترقاق دون القتل، والإمام لا يزيد على حكم المحكم، وله أن ينقص، والاسترقاق دون القتل.
ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يسبي، وهو اختيار الصيدلاني؛ فإن الاسترقاق نوع من العذاب، وقد يؤثر الإنسان الموت عليه، وليس كالمنّ، فإنه تركٌ للعقاب من غير بدل، فلو حكم بالقتل، ثم أسلم المحكوم عليه، امتنع القتل، فمن جوز للإمام أن يسترق في الكفر، جوّز ذلك بعد الإسلام، ومن لم يجوّز الاسترقاق، فلا يجوز هاهنا؛ فإن الاسترقاق زال بحكم القتل، ثم زال القتل بالإسلام.
فرع:
11430- ذكر الشيخ في أثناء كلامه في شرح التلخيص أن العبد المرتدّ مالٌ يُباع، ولو قتله مسلم، لم يلتزم بقتله ضماناً، ولو غصبه غاصب، فتلف في يده، لزمه الضمان؛ فإنه مالٌ تام قابل للتصرفات المتعلّقة بالملك التام، وما كان كذلك، فهو مضمون باليد العادية، ولا يضمن بالقتل؛ لأن قتله حكمُ إقامة الحد، فمن ابتدر قتله من المسلمين كان مقيماً حدّ الله تعالى، وإن لم يكن له ذلك؛ فإنه مفوّض إلى نائب المسلمين.
وهذا ممثل بعبدٍ مغصوب في يد الغاصب يقول مولاه: اقتله، فلو قتله، لم يضمنه، ولو تلف في يده، ضمنه، ولو قطع رجلٌ يدَ مرتدٍّ، واندمل، وأسلم المقطوع يدُه، فلا ضمان، وإن لم يكن قَطْعُ اليد قتلاً، ولم يكن واقعا حدّاً، ولا محمل لهذا إلا أنه لو قتله، لكان هدراً، والأطراف تهلك بالقتل، والذي يقرّب ذلك أن قطع الطرف لو أدى إلى التلف، لكان قتلاً، فإذا لم يُودَ، لم يخصص بالضمان، والوجه أن نقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: اقتل هذا العبد، فلو قتله، لم يضمنه، ولو قطع يده، لم يضمن يده أيضاً، قياساً على قطع يد المرتد، والله أعلم.
فرع:
11431- ذكر الشيخ في أثر كلام أجراه في أحكام الكفار، أن الكافر إذا حلف وحنث، انعقد يمينه، ولزمته الكفارة، بالحنث، وهذا مشهور من أصلنا. ثم قال: فلو أسلم الكافر، فهل تسقط عنه الكفارة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: تسقط، ولا يخاطب بها، والإسلام يجبها. الثاني- لا تسقط، كما لا تسقط عنه القروض والديون التي التزمها في الشرك.
وهذا الذي ذكره يجرّ إشكالاً عظيماً على المذهب؛ فإن الكفارة إذا كانت تسقط بالإسلام، والطَّلِبة بها لا تتوجه على الكافر، وليست من الأحكام المتعلّقة بالحكام، حتى يُفرض فيها إلزامٌ من الحاكم عند تقدير رضا الكافر بحكمه، سواء إذا كان الكافر في كفارة اليمين أو غيرها، فإذا لم يظهر طَلِبة، والإسلامُ المتضمن التزام الأحكام يُسقطها، فلا معنى للزومها.
ولو كانت الكفارة مفروضة في الظهار، والظهار نافذ من الكافر؛ فإنه يقتضي تحريماً، وإن كان لا يقطع الملك، فيتجه أن يقال: لا يرتفع التحريم إلا بالتكفير، وبالجملة إذا أسقطنا بالإسلام كفارة اليمين، فلا معنى لوجوبها على الكافر، والمصير إلى أن كفارة الظهار تسقط بالإسلام لا أصل له.
ويلزم على مساق هذا أن يقال: إذا آلى الكافر من زوجته، ثم أسلم، انقطع الإيلاء، لمصيره إلى حالة لو وطىء، لم يلتزم بالوطء أمراً، وقد ذكرنا أن من علّق عتق عبده بوطء زوجته، وحكمنا بأنه مُولٍ موقوف بعدّ الأربعة الأشهر، فلو باع ذلك العبد، والتفريع على امتناع عود الحنث، فينقطع الإيلاء.
فإذاً يجب القطع ببطلان سقوط الكفارة بالإسلام؛ فإن في الذهاب إليه هدمُ القواعد. ووجوب كفارة اليمين على الكافر مشكل، وإن كان الفقيه يتكلف لإثبات الكفارة في الظهار تبعاً للظهار، وكذلك القول في الكفارة المتعلقة بالإيلاء.
فهذا منتهى المراد في ذلك.

.باب: إظهار دين الله تعالى:

11432- تكلم الشافعي في هذا الباب على آيةٍ وأخبارٍ ظاهرها التعرض لما سيكون، فأما الآية، فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، وقد قيل: أراد إظهار دينه بالحجة، فعلى هذا انتجز الموعود، وظهرت الحجة، ووضحت المحجة.
وقيل: أراد ظهورَ الملة في جزيرة العرب، وهذا متجه أيضاً.
وقيل: أراد استيلاء ملوك الأمة على المشارق والمغارب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها».
وقيل؛ ينتجز هذا الوعد عند نزول عيسى عليه السلام، وقصة نزوله مشهورة.
وأما الأخبار التي جمعها الشافعي، فهي، ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده، لتنفقَن كنوزهما في سبيل الله». وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمدٍ رسول الله إلى كسرى عظيم فارس» فلما بلغه الكتاب قال: عبدي يقدم اسمه على اسمي، ومزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمزّق ملكُه».
وكتب إلى قيصر: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم: أما بعد، أسلم تسلم، الكتاب» وهو معروف. فلما أتاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمه وطيبه وغلفه بالمسك والغوالي، وقبّله ووضعه على رأسه، وأمر حتى نثر عليه. فقال صلى الله عليه وسلم، لما بلغه الخبر: «ثبت الله ملكه».
أما الأخبار في هلاك الأكاسرة، وتمزق ملكهم، فلا اختلاف فيه، وأما حديث قيصر، فقد روي أنه قال: "إذا مات قيصر، فلا قيصر بعده " معناه: لا قيصر بعده بالشام، وكانت القياصرة تسكن الشام، وهي دار ملكها. وأما قوله: ثبت الله ملكه أراد امتداد ملك القياصرة، وهذا حق معاين، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لتنفقن كنوزهما في سبيل الله» أي كنوز قيصر الشام، وقد أنفقت، وقيل: أراد جملة القياصرة، وهذا سيكون في آخر الزمان.
ولكن الفقيه إذا لم يكن وافر الحظ من الكليات وأحكام الإيالات إذا انتهى إلى مواقف تعارض النص، تخبط.